Admin الخميس مارس 11, 2010 5:10 pm
الجلسة الثالثة من السلسلة التأملية عن المصلوب والفداء - الخـطيــــة
1- ما هي الخطية ؟
اختلف الناس في أمر الخطية لاختلاف أفكارهم وميولهم، فلكي نتحقق من ماهيتها، دعنا نفكر على سبيل المثال في العبارة المألوفة «أخطأ الهدف»ومعناها: «لم يُصِبْ الهدف أو انحرف عنه»- فمن هذه العبارة يتَّضح لنا أن الخطية ليست هي الشر الشنيع فحسب كما يظن بعض الناس، بل إنها أيضاً الانحراف عن حق اللّه بوصفه القاعدة التي وضعها لسلوكنا في العالم الحاضر. ولما كان حق اللّه ينهى عن الشر ويأمر بالخير، لذلك فالخطية لا تكون بالانحراف إلى الشر فحسب، بل وبالانحراف عن الخير أيضاً.
ومن ثمَّ فالحكم على تصرفاتنا لا يكون لشعورنا أو ضمائرنا، كما يقول بعض الناس، بل لكلمة اللّه دون سواها، لأن هذه ثابتة راسخة إلى الأبد.
أ- الانحراف إلى الشر:
إن الخطية هي مجرد الانحراف الباطني إلى الشر، قال الوحي أيضاً: «فِكْرُ ٱلْحَمَاقَةِ خَطِيَّةٌ»(أمثال 24: 9). و «كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفسٍ»(1 يوحنا 3: 15). و «كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ»(متى 5: 28). و «مَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِب نَارِ جَهَنَّمَ»(متى 5: 22). و «كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا ٱلنَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ ٱلدِّينِ»(متى 12: 36 )كما نهانا عن الكذب والسُّكر والغضب، والمرارة والرياء والحسد، والربا والسحر والطمع (أفسس 4: 25 - 31 ، 5: 4 ، 5 و1 بطرس 2: 1 ومزمور 15: 5 ورؤيا 21: 8 ). حتى نكون قديسين كما أنه تعالى قدوس (1 بطرس 1: 15 و16) ، إذ بدون القداسة، لن يرى أحد الرب (عبرانيين 12: 14).
وقد عرف الأنبياء شر الخطايا الباطنية، ولذلك صرخ مرة أحدهم للّه قائلاً: «مِنَ ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي»(مزمور 19: 12). كما قال له: «ٱخْتَبِرْنِي يَا اَللّٰه وَ ٱعْرِفْ قَلْبِي. ٱمْتَحِنِّي وَ ٱعْرِفْ أَفْكَارِي. وَ ٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَ ٱهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً»(مزمور 139: 23 ، 24) لأن الإِنسان قد يجهل أفكار الشر التي تجول في نفسه أو لا يحسب لها حسابا، وتكون النتيجة النهائية أنه يرى نفسه دون أن يدري، بعيداً عن اللّه بعداً عظيماً.
ب- الانحراف عن الخير: وهو يشمل الأمور التالية:
• التقصير في عمل الخير:
«مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَناً وَلا يَعْمَلُ، فَذٰلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ»(يعقوب 4: 17). كما قال «لِنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ» (غلاطية 6: 10).
• القيام بأعمال الخير لأغراض شخصية:
قال الوحي: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَ ٱلظَّالِمِينَ»(متى 5: 43-45 ، لوقا 6: 35).
فضلاً عن ذلك، سجل لنا أن المسيح سيخاطب المتظاهرين بخدمته، الذين سينادونه في اليوم الأخير قائلين «يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ؟»بالرد الحازم القاطع «إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلإِثمِ»(متى 7: 22 ، 23).
• حصر اهتمام النفس في العالم الحاضر:
إنَّ السعي وراء العيش وتحصيل المال اللازم لنا في هذا العالم، أمر واجب طالما نحن نحيا فيه. لكن إذا طغى هذا السعي على النفس وصرفها عن الصلة باللّه والتوافق معه، كان ذلك دليلاً على انحرافها عنه،أو بالحري على عدم ثقتها فيه وتقديرها لفضله عليها، فيكون السعي المذكور خطية أيضاً «أَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْعَالَمِ (أو بالحري الانصراف إليه) عَدَاوَةٌ لِلّٰهِ» (يعقوب 4: 4)، «لأَنَّ كُلَّ مَا فِي ٱلْعَالَمِ شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَة» (1 يوحنا 2: 16).
ج- مستوانا الروحي في ضوء اللّه:
الخاطي (في نظر اللّه) ليس من يعمل خطايا كثيرة فحسب، بل ومن يعمل أيضاً خطية واحدة، سواء كانت بالفكر أم القول أم الفعل ، فقد قال الوحي: «لأَنْ من حَفِظَ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ. لأَنَّ ٱلَّذِي قَالَ: «لا تَزْنِ»قَالَ أَيْضاً: «لا تَقْتُلْ». فَإِنْ لَمْ تَزْنِ وَلٰكِنْ قَتَلْتَ، فَقَدْ صِرْتَ مُتَعَدِّياً ٱلنَّامُوسَ» (يعقوب 2: 10، 11). ولذلك لأجل خطية واحدة طرح اللّه بعض الملائكة من السماء (2 بطرس 2: 4)، ولأجل خطية واحدة طُرد آدم وحواء من جنة عدن (تكوين 3: 24)، ولأجل خطية واحدة حُرم موسى النبي من دخول أرض كنعان (تثنية 32: 52)، ولأجل خطية واحدة أمات اللّه حنانيا وسفيرة في الحال (أعمال 5: 1 - 11).
وقد أدرك أتباع سقراط هذه الحقيقة فقالوا: «الإِنسان إما أن يكون فاضلاً إلى النهاية أو لا يكون. هو كالخط، إما أن يكون مستقيماً، أو غير مستقيم، ولا وسط بين الاثنين».
تُحسب الخطية (في نظر اللّه) خطية، ليس فقط إذا كان فاعلها يشعر بها، بل وإذا كان لا يشعر بها، فقد قال الوحي: «السهوات من يشعر بها ... » (مز 19: 12).
ولذلك قال الوحي عن الإِنسان عامة «أَنَّ كُلَّ تَصَّوُرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّير كُلَّ يَوْمٍ»(تكوين 6: 5)، وإن قلبه، الذي هو موطن الشعور والعواطف فيه أخدع من كل شيء وهو نجيس (إرميا 17: 9)، وإن «مِنْ قُلُوبِ ٱلنَّاسِ، تَخْرُجُ ٱلأَفْكَارُ ٱلشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سِرقَةٌ... تَجْدِيفٌ»(مرقس 7: 21 ، 22) و «كُلُّ ٱلرَّأْسِ مَرِيضٌ وَكُلُّ ٱلْقَلْبِ سَقِيمٌ. مِنْ أَسْفَلِ ٱلْقَدَمِ إِلَى ٱلرَّأْسِ لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وَأَحْبَاطٌ (الاحباط هي الجروح التي تنشأ من السحق، والمراد بها هنا الخطية التي تدمّر نفوس البشر وتسحقها) وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِٱلّزَيْتِ»(إشعياء 1: 5 ، 6)، أي أن الخطية ضربت أطنابها في الإِنسان حتى أفسدت كيانه كله. ولقد أدرك فولتير شيئاً من هذه الحقيقة، فقال: «كلما رسمت لنفسي صورة الإِنسان خُيّل إليَّ أنه شيطان».
2- تسرُّب الخطية إلى البشر عامة
أ- الحالة التي يولد بها البشر
الإِنسان يولد وبه ميل إلى الخطية، وهذا الميل وإن كان لا يبدو بوضوح في الصغر، غير أنه يأخذ في الظهور كلما شبَّ الإِنسان ونما. وهو مثل السم الكامن في الثعبان، فإنه لا يَرِد إليه من الخارج، بل أن الثعبان يولد وفي جسمه استعداد لتكوينه. وكل ما في الأمر، أن هذا السم لا يظهر بنتائجه المميتة، إلا إذا بلغ الثعبان سناً معينة.
ب- سبب ولادة الإِنسان بطبيعة تميل إلى الخطية:
بناءً على قانون الوراثة لا يمكن لكائن أن يلد آخر مغايراً له، كما يقول علماء الأحياء وعلى رأسهم ماندل. فالخنزيرة لا يمكن أن تلد حملاً، والشوك لا يمكن أن ينتج عنباً. وبما أن آدم الذي ولد منه البشر جميعاً كان قد فقد بعصيانه حياة الاستقامة التي خلقه اللّه عليها وأصبح خاطئاً قبل أن ينجب نسلاً، كان أمراً بديهياً أن يولد أبناؤه جميعاً خطاة بطبيعتهم نظيره، ولذلك قال الوحي: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ»(رومية 5: 12 - 21). وشهد داود النبي بهذه الحقيقة فقال عن نفسه: «هَاءَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُّوِرتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور 51: 5). وقد أدرك هذه الحقيقة كثير من الفلاسفة والعلماء، فقال هكسلي وكانْت: «هناك أصل للشر في الطبيعة البشرية، مما يدل على أن قصة سقوط آدم في الخطية صحيحة».
ج- نتائج ولادة البشر بالخطية:
بما أن الخطية تسربت وتتسرب إلى البشر بالوراثة، وبما أن قانون الوراثة قانون عام تخضع له جميع الكائنات الحية، لذلك كان أمراً بديهياً بعد أن تسربت الخطية إلى البشر، أن يصيروا جميعاً خطاة بأفعالهم كما ولدوا خطاة بطبيعتهم. ولذلك قال الوحي: «لَيْسَ بَارٌّ وَلا وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ.(فهماً روحياً) لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ ٱللّٰهَ. ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْملُ صَلاحاً لَيْسَ وَلا وَاحِدٌ»(رومية 3: 10 - 12). كما قال: «لأَنَّهُ لا فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ»(رومية 3: 22 ، 23)، ولذلك قال داود النبي للّه: «لا تَدْخُلْ فِي ٱلْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ» (مزمور 143: 2). وقد اعتاد الناس أن يفرقوا بين إنسان وآخر، فيقولون مثلاً: إنَ هذا الإنسان أفضل من ذاك. لكن ليس هذا هو الحال في نظر اللّه، لأنه ليس هناك واحد من البشر لم يفعل خطية واحدة في حياته، ومن يفعل خطية واحدة، يكون خاطئاً لا باراً.
3- تأثير الخطية بالنسبة للّه
أ- أسباب تأثيرها بالنسبة إلى اللّه:
يعتقد بعض الناس أن الخطية إذا كانت بين الإِنسان وبين نفسه، انحصر تأثيرها فيه وحده، وإذا كانت بينه وبين إنسان غيره، انحصر تأثيرها فيهما، لأن اللّه بسبب روحانيته المطلقة هو أرفع من أن يتأثر (كما يقولون) بأي مؤثر خارجي - لكن هذا الاعتقاد لا نصيب له من الصواب.
لأن كل خطية نرتكبها ضد أنفسنا أو ضد غيرنا من الناس، تكون موجهة ضد اللّه أولاً كما ذكرنا. ولذلك عندما أخطأ داود النبي ضد أوريا وامرأته قال للّه: «إِلَيْكَ وَحْدَك أَخْطَأْتُ وَ ٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ»(مزمور 51: 4). كما أن يوسف الصديق عندما أبى أن يلبي الرغبة الآثمة التي عرضتها عليه امرأة فوطيفار، قال لها: «كَيْفَ أَصْنَعُ هٰذَا ٱلشَّرَّ ٱلْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى ٱللّٰهِ؟!»(تكوين 39: 9).
ب- مدى الإِساءة التي نوجّهها إلى اللّه بسبب الخطية:
وإن كنا لا نستطيع تحديد هذه الإِساءة بسبب سمو اللّه عن إدراكنا سمواً لا حد له، لكن نعلم أنه بارتكاب الخطية
(أ) نحُول بين اللّه وبين الصلة الروحية الطيبة التي يريدها أن تكون بينه وبيننا، لأنه لم يخلقنا على صورته كشبهه إلا لتكون لنا هذه الصلة به.
(ب) ننكر فضله علينا ونستهين بعواطفه الكريمة من نحونا.
(ج) نرفض شريعته ونكسر ناموسه، وبذلك نتمرد عليه ونهينه في أرضه وعلى مرأى منه.
4- تأثير الخطية بالنسبة للبشر
اللّه خلقنا لا لنعيش بمعزل عنه، بل لكي نعيش في رفقته ومعيّته كما ذكرنا، وبما أن كل كائن يبتعد عن المجال الذي خُلق للعيش فيه، لا يمكن أن يهنأ أو يستريح، إذاً كان أمراً بديهياً أن كل من يبتعد عن اللّه يتعرض للتعب والشقاء. وقد أشار اللّه إلى هذه الحقيقة فقال: «وَمَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ نَفْسَهُ»(أمثال 8: 36)، والأضرار التي يتعرض لها الإنسان في العالم الحاضر بسبب الخطية ثلاثة أنواع: أضرار نفسية، وأضرار أدبية، وأضرار مادية:
1 - الأضرار النفسية:
من يركض وراء الخطية، يحيا حياة القلق وعدم الاستقرار، كما يتعرض أحياناً للأمراض النفسية التي يتعذر شفاؤها، لأنه لا يجد في نهاية جهاده على الأرض هدفاً ثابتاً أمامه، أو رجاء منيراً قدامه. وإذا لم يتعرض لهذه الأمراض، فإنه يحصر غايته في ثروة لا يلبث أن يتركها أو تتركه. أو في لذة (أو بالحري نشوة) سرعان ما يهجرها أو تهجره. لذلك قال الوحي عن الخطية إنها تحني النفس (مزمور: 25 44) وتملأها بالذل والهوان (مزمور 123: 4)، وتحرمها من الراحة والسلام (إشعياء 48: 22)، وتسلبها الوعي الروحي فتصبح أحط من نفس الحيوان (إشعياء 1: 3).
2- الأضرار الأدبية:
ولوجود الطبيعة الخاطئة في الإنسان، يصبح (إذا لم يتلقَّ حياة روحية من اللّه) عاجزاً عن الارتقاء فوق خطاياه. فإذا تعهد يوماً بالإقلاع عنها، وبذل جهده في سبيل تنفيذ تعهده هذا، سرعان ما يُغلب على أمره. فإن لم يفعل الخطية في الظاهر، قد يفكر فيها ويشتهيها في الباطن، ومن ثم يعود من حيث أتى. وأول من شعر بهذه الحالة المريرة هو آدم وحواء، فعندما أخطأا، فقدا الصلة الروحية باللّه كما أحسا بأنهما لا يستطيعان العودة إلى حالة البراءة التي كانا يتمتعان بها من قبل - تكوين3: 8 وهذا العجز وذاك الفقدان يُعبَّر عنهما بالموت الأدبي، الذي هو أشر موت لمن يقدّر أهمية التوافق مع اللّه حق التقدير.
3- الأضرار المادية:
• وبسبب الخطية كم من قويٍّ تهدمت صحته، وشاب في مقتبَل العمر ذبلت نضارته، ومثقف كان يزدان به المجتمع فقَدَ مكانته! وكم من غني أصبح فقيراً وعظيم أضحى حقيراً، ومحترم أمسى مهاناً ذليلاً. وبسبب الخطية كم من خصام دبَّ بين العائلات راح ضحيته كثير من الأبرياء.
لذلك قال الوحي إن الأهواء التي تجيش في نفوس الناس، هي السبب في قيام الحروب والخصومات بينهم (يعقوب 4: 1)، وإنه بسبب امرأة زانية يفتقر الإنسان إلى رغيف خبز (أمثال 6: 26)، وإنه بسبب الخمر يحل الشقاء والكرب (أمثال 23: 29 و30) وإن الخطية بصفة عامة تمنع الخير عن الناس (إرميا 5: 25)، وتجلب عليهم العار (أمثال 14: 34)، وتسبب لهم العلل والأمراض (تثنية 28: 22).
• وليت الأمر يقف عند هذا الحد، لأن الموت الجسدي الذي نرتعد لذكره وتتحطم عنده آمالنا وأمانينا، ويورثنا الكثير من الحزن والأسى، ليس إلا النتيجة الختامية للخطية في العالم الحاضر. فقد قال اللّه لآدم عن الشجرة المنهيّ عنها: «لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ»(تكوين 2: 17)، كما قال له بعد الأكل منها: «لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ»(تكوين 3: 19).
5- الخطية والآلام الذاتية الأبدية
آ- تأثير حضرة اللّه:
معظم الذين يفعلون الخطية في الزمن الحاضر لا يدركون شناعتها أو خطورتها، ولذلك لا يحسبون لها حساباً. غير أن موقفهم هذا سوف لا يدوم طويلاً، لأنه سيأتي يوم - ولا بد أن يأتي - فيه يرون أنفسهم وجهاً لوجه أمام اللّه الذي كانوا يسيئون إليه ويتجاهلون حقوقه، وحينئذ يدركون أن خطاياهم شنيعة وخطيرة بدرجة لم تكن تخطر لهم ببال، فيرتعبون رعباً ليس بعده رعب، ويفزعون فزعاً ليس بعده فزع. فقد ذكر الوحي أن بيلشاصر الملك (أحد ملوك بابل القدامى، وكان قد أهان في كبريائه اللّه جل شأنه إهانة بالغة) عندما شعر بقضاء اللّه يهبط عليه «حِينَئِذٍ تَغَيَّرَتْ هَيْئَةُ ٱلْمَلِكِ وَأَفْزَعَتْهُ أَفْكَارُهُ وَ ٱنْحَلَّتْ خَرَزُ حَقَوَيْهِ وَ ٱصْطَكَّتْ رُكْبَتَاهُ»(دانيال 5: 6)، كما ذكر أن الملوك والعظماء (الذين سيكونون أحياء على الأرض عند ظهور الرب للدينونة)، سوف يخفون أنفسهم في الكهوف والشقوق، «وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَٱلصُّخُورِ: ٱسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْه ٱلْجَالِسِ عَلَى ٱلْعَرْشِ» ( رؤيا 6 : 16) لكن لن تسمع الجبال لندائهم ولن تستجيب الصخور لصراخهم، إذ ليس هناك شيء في الوجود يستطيع أن يحجبهم عن اللّه، فيظلون في رعب ليست له نهاية.
ب - تأثير الضمير:
كلنا يعلم أن الضمير أُودع فينا ليهدينا سواء السبيل، وذلك بالتأنيب على فعل الشر والتشجيع على فعل الخير. وبما أن الذين يرتكبون الخطية في العالم الحاضر، كثيراً ما يلتمسون الأعذار لأنفسهم، فيخدّرون ضمائرهم ويُخمدون صوتها. وبما أنه ليس في عالم الروح مجال لتخدير الضمير وإخماد صوته، لذلك فالضمائر النائمة الآن، لا بد أن تستيقظ في الأبدية، وهناك سيرى الخطاة بطلان الأمور الدنيوية التي كانوا يفنون فيها صحتهم ويضيّعون فيها ثرواتهم ووقتهم، فيندمون ويتحسرون، ويكتشفون خيبتهم في تضليل أنفسهم بالتماس الأعذار الواهية، فينوحون ويتوجعون، ثم يقدّرون إحسان اللّه الذي كان يتهاطل عليهم دون أن يعبأوا به، فيبكون ويولولون إلى أبد الآبدين، لأنه ليس هناك من يرحمهم أو يشفق عليهم.
ج - الوحشة في الأبدية:
وبما أنه لا يوجد في عالم الروح أثر للشهوات التي يلهو بها الناس في دنياهم، أو العلاقات التي يجدون فيها سلواناً لأنفسهم، أو الأعمال التي تشغل أفكارهم وتصوراتهم، لأن عالم الروح لا تأثير فيه لغير اللّه. لذلك فالأشرار سوف يشعرون بوحشة لا نظير لها، إذ لن تكون لهم علاقة، ليس مع اللّه أو قديسيه فحسب، بل ولا مع الأشرار الذين كانوا على شاكلتهم في العالم الحاضر أيضاً، فلا يكون هناك من يواسي الخطاة ويعزيهم، أو يُنسيهم همومهم وآلامهم، أو يهوّن عليهم مصابهم.
د - القصور الذاتي:
إن الطبيعة البشرية المنحرفة عن اللّه، لا تتغير على الإِطلاق مهما نال المرء الكثير من التهذيب والتعليم، كما ذكرنا في الفصل الثاني. ولذلك فالذين لم يحصلوا في العالم الحاضر على طبيعة روحية من اللّه تؤهلهم للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية، سوف يجدون أنفسهم في الأبدية عاجزين أيضاً عن هذا التوافق مهما بذلوا في سبيله من جهد. وقد أدرك هذه الحقيقة كثير من العلماء، فقال صموئيل جونسون: «إن الحالة التي تسود علينا في العالم الحاضر، ستظل سائدة علينا في العالم الآخر» .
فلو فرضنا أن الخطاة استطاعوا أن يفلتوا من مصيرهم المرعب، وينطلقوا ليسترضوا اللّه ويدخلوا في علاقة جديدة معه، لا يمكن أن يظلوا في حضرته لحظة واحدة، فيركضون على أعقابهم متباعدين عنه، هذا هو القصور الذاتي الذي يحول بين الخطاة وبين تغيير سلوكهم في الأبدية، ويقطع من أمامهم كل أمل في النجاة من الشر الذي تشكلوا به في دنياهم، ويورثهم آلاماً مريعة تحزّ في نفوسهم. وقد أشار الوحي إلى هذه الآلام فقال عن الخطاة إن نصيبهم في الأبدية هو البكاء وصرير الأسنان (متى 8: 12) البكاء بسبب شدة الألم، وصرير الأسنان بسبب شدة الندم.
6- الخطية والعقوبة الإلهية الأبدية
أ- عدالة العقوبة الإِلهية:
إنَّ شعور الخطاة في الأبدية بالآلام الذاتية المتعددة التي ذكرناها سابقاً، لا يعفيهم من توقيع القصاص الإِلهي عليهم بسبب خطاياهم. ولا غرابة في ذلك، فشعور المجرمين بالحسرة والندم بعد القبض عليهم لا يعفيهم من توقيع القصاص القانوني عليهم. فالخطاة لا بد أن ينالوا من اللّه عقاباً عن خطاياهم، كبيرها وصغيرها، حتى إن كانوا قد نالوا قصاصاً عنها في دنياهم بواسطة المحاكم الأرضية، لأن عقاب هذه المحاكم ليس عن الإِساءة إلى اللّه، بل عن الإساءة إلى المجتمع الذي يعيش فيه الناس.
ب- مدى العقوبة الإلهية:
بما أن قصاص الإساءة يتناسب طردياً مع مكانة الشخص المُسَاء إليه. فإذا وقعت إهانة على شخص قليل الشأن كخادم صغير في منزل، كان قصاصها لا يُذكر، وكان تعويضها (إن كان لا بد من تعويض) ضئيلاً. أما إذا وقعت الإهان على شخص عظيم القدر كملك أو حاكم، كانت جريمة شنيعة تستحق عقاباً جسيماً لا مجال للتعويض فيه بحال. وبما أن الخطية هي إهانة للّه الذي لا نهاية لمجده ولا حدّ لسموّه، إذاً فالعقوبة المستحقَّة عنها هي عقوبة لا نهاية لها. ولذلك لا عجب إذا كان اللّه قد قال لآدم إنه يوم يأكل من الشجرة التي نهاه عنها «مَوْتاً تَمُوتُ»(تكوين 2: 17). ومن مواضع كثيرة في الكتاب المقدس يتضح لنا أن الله قصد بهذا الموت المؤكد، الموت بأنواعه الثلاثة، أي الأدبي والجسدي والأبدي. وقد تحدثنا فيما سلف عن النوعين الأوَّليْن من هذا الموت، ومن ثم نحصر الحديث هنا عن الموت الأبدي.
إن الموت الأبدي هو المعبَّر عنه في الكتاب المقدس بالموت الثاني،أو العذاب الأبدي (رؤيا 20: 14)، وهو قصاص لا نهاية لمدته، لأن الخطية جريمة ضد اللّه الذي لا نهاية لمجده، ولا حد لسمّوه. لذلك قال الوحي عن الأشرار إن نصيبهم هو « ٱلْبُحَيْرَةِ ٱلْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَوْتُ ٱلثَّانِي»(رؤيا 21: 8 ). وهذه البحيرة هي جهنم التي لا تُطفأ نارها ولا يموت دودها (مرقس 9: 44). والنار هنا ليست طبعاً ناراً مادية، لأن المادة (بالمعنى المعروف لدينا) هي من خصائص الأرض وغيرها من الأَجرام. ومع ذلك فمن المؤكد أن تأثيرها سيكون للأسباب السابق ذكرها، أشد من تأثير النار المادية بنسبة لا حدّ لها، لأن الفرق بين الاثنين هو في الواقع الفرق بين الحقيقة والصورة الخاصة بها، وهذا الفرق شاسع للغاية. كما أن الدود الوارد ذكره مع جهنم ليس دوداً بالمعنى الحرفي، إذ أن المراد به وخزات الضمير وتأنيباته اللاذعة، التي تحدثنا عنها سابقاً.
• مذكرة توضيحية عن جهنم:
يقول بعض الشراح إن كلمة «جهنم»مشتقة من كلمة «جي هنوم»أو «وادي هنوم»الذي كانت تُحرق فيه الضحايا البشرية كل يوم قرباناً للوثن مولك (2 ملوك 23: 10)، وكان من لا تصيبه النار من هذه الضحايا، يصبح مسرحاً للدود. فاتخذ الوحي اسم جي هنوم الذي يعرفه الناس وأطلقه على مكان عذاب الأشرار الأبدي الذي لا يعرفونه. وجهنم ليست هي الهاوية، لأن الهاوية بقسميها هي المكان العام الذي تنطلق إليه الأرواح بعد خروجها من أجسادها. والقسم الأول خاص بأرواح الذين لهم علاقة حقيقية مع اللّه، ويدعى «الفردوس»(لوقا 23: 43)، والقسم الثاني خاص بأرواح الذين ليست لهم مثل هذه العلاقة معه، ويدعى «السجن»(1 بطرس 3: 19). ولا شك أن الذين يدخلون السجن بأرواحهم وأجسادهم معاً، يتألمون قبل نزول هذا العذاب بهم. أما الذين يدخلون الفردوس بأرواحهم فيشعرون بشيء من السعادة الأبدية التي تنتظرهم عند قيامة أجسادهم من بين الأموات، فيفرحون قبل قيامتهم بها.
ج- الأساس الذي توقع عليه العقوبة:
بما أن من يرتكب خطية صغيرة في نظرنا، يتعدى على شريعة اللّه ويحرم نفسه من التوافق معه، شأنه في ذلك شأن من يرتكب خطية كبيرة سواء بسواء. إذاً لا غرابة إذا قال الوحي: «مَنْ قَلَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ»(متى 5: 22)، كما بالقول إن هذه النار بعينها يستحقها «ٱلْخَائِفُونَ وَغَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلرَّجِسُونَ وَٱلْقَاتِلُونَ وَٱلّزُنَاةُ وَٱلسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ ٱلأَوْثَانِ وَجَمِيعُ ٱلْكَذَبَةِ»(رؤيا 21: 8 )، لأن من يقول «يا أحمق»، يكون مجرداً من المحبة للآخرين والعطف عليهم. وشخص مجرد من هاتين الصفتين لا يستطيع التوافق مع اللّه في صفاته الأدبية السامية، وبالتالي لا يستطيع التمتع به على الإطلاق. وعدم التمتع باللّه أو الحرمان منه، هو جهنم بعينها.
ولا يُراد بغير المؤمنين: المشركون والملحدون فحسب. بل يُراد بهم أيضاً المؤمنون بالاسم. لأن هؤلاء وإن كانوا يعترفون بالمسيح ويقومون بالفرائض أحياناً، غير أنهم لا يستطيعون التوافق مع اللّه في صفاته الأدبية السامية، مثلهم في ذلك مثل المشركين والملحدين تماماً.
خاتمة :
ومع كلٍ هذا فقد استطاعت محبة اللّه ورحمته أن تشقّا لنا طريقاً كريماً يتفق مع قداسته وعدالته، لأجل خلاص الخطاة الراغبين بإخلاص في الرجوع إليه، وذلك بإنقاذهم من عقوبة خطاياهم وتهيئة نفوسهم للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية، كما سيتضح بالتفصيل ابتداء من الباب الثالث. إنما نرى من الواجب قبل التحدث عن هذا الطريق الكريم، أن نستعرض أولاً الطرق التي يلجأ إليها معظم الناس ليحصلوا (حسب اعتقادهم) على الغفران والقبول لدى اللّه، لنرى إلى أي حدٍّ تُجدي وتُفيد.
الرب يبارك حياتكم.
Admin
المصدر: فلسفة الغفران ، عوض سمعان - الجزء الأول: لزوم كفارة المسيح.
عدل سابقا من قبل Admin في السبت يونيو 05, 2010 5:26 am عدل 2 مرات